سورة إبراهيم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


قلت: قال هنا: {اجعل هذا البلد} بالتعريف، وقال في سورة البقرة {بَلَداً} [البقرة: 126] بالتنكير، قال البيضاوي: الفرق بينهما أن المسؤول في الأول أي: في التعريف إزالة الخوف وتصييره أمناً، وفي الثانية جعله من البلاد الآمنة. اهـ. وفرَّق السهيلي: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة حين نزول آية إبراهيم، لأنها مكية؛ فلذلك قال فيه: {البلد}؛ بلام التعريف التي للحضور، بخلاف آية البقرة، فإنما هي مدينة، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يُعرفها بلا تعريف الحضور. اهـ. قال ابن جزي: وفيه نظر؛ لأن ذلك كان حكاية عن إبراهيم عليه السلام، ولا فرق بين كونه بالمدينة أو بمكة. اهـ.
قلت: لا نظر فيه؛ لأن الحق تعالى لم يحك لنا قصص الأنبياء بألفاظهم، وإنما ترجم عنها بلسان عربي، فينزل على رعاية مقتضى الحال. ولذلك اختلفت الألفاظ في قصص الأنبياء، لأن كل قصة تنزل على ما يقتضيه المقام والحال، من تعريف وتنكير، واختصار وإطناب. وقد ذكر أبو السعود في سورة الأعراف ما يؤيد هذا، فانظره. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {إذْ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد} يعني: مكة، {آمناً} لمن فيها من أغدرة الناس عليها، أو من الخسف والعذاب، أو من الطاعون والوباء، {واجنُبني} أي: امنعني واعصمني، {وبَنيَّ} من بعدي، من {أن نعبد الأصنامَ} أي: اجعلنا منهم من جانب بعيد. قال البيضاوي: وفيه دليل على أن العصمة للأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته، وغم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم، محتجاً به، وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها، وسمونها الدوار، ويقولون: البيت حجر، وحيثما نصبت حجراً فهو بمنزلته. اهـ. قال ابن جزي: و{بَنِيَّ} يعني: من صُلبه، وفيهم أجيبت دعوته، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام. اهـ. وقد قال في الإحياء: عنى إبراهيمُ عليه السلام بالأصنام، الذهب والفضة، بمعنى: حبهما والأغترار بهما، والركون إليهما. قال عليه الصلاة والسلام: «تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ والدِّرْهَم...» الحديث؛ لأن رتبة النبوة أجل من أن يُخْشى عليها أن تعتقد الألوهية في شيء من الحجارة. اهـ.
قلت: الظاهر أن يبقى اللفظ على ظاهره، في حقه وفي حق بنيه. أما في حقه فلسعة علمه وعدم وقوفه مع ظاهر الوعد، كما هو شأن الأكابر، لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، وهذا كقوله: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام: 80]. وتقدم هذا المعنى مراراً. وأما في حق بنيه فإنما قصد العموم في نسله لكن لم يجب إلا فيما كان صلبه؛ فإن دعاء الأنبياء عليهم السلام لا يجب أن يكون كله مجاباً، فقد يُجابون في أشياء، ويُمنعون من أشياء.
وقد سأل نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته أشياء، فأجيب في البعض، ومُنع البعض، كما في الحديث.
ثم قال إبراهيم عليه السلام: {ربِّ إنهن أضللن كثيراً من الناس} أي: إن الأصنام أتلفت كثيراً من الخلق عن طريق الحق، فلذلك سألتُ منك العصمة، واستعذتُ بك من إضلالهن، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية، كقوله {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} [الأنعام: 70]. {فمن تبعني} على ديني {فإنه مني}؛ لا ينفك عني في أمر الدين، {ومن عصاني فإنك غفور رحيم}، تقدر أن تغفر له ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أن كل ذنب فللَّه أن يغفره، حتى الشرك، إلا أن الوعيد فرَّق بينه وبين غيره، قاله البيضاوي. قال ابن جزي: {ومن عصاني}؛ يريد: بغير الكفر، أو عصاه بالكفر ثم تاب منه، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة، ولكنه ذكر اللفظ بالعموم؛ لما كان فيه عليه السلام من التخلْق بالرحمة للخلق، وحسن الخُلق. اهـ.
{ربنا إني أسكنت من ذريتي} أي: بعض ذريتي، وهو: إسماعيل عليه السلام، أو: أسكنت ذرية من ذريتي، وهو إسماعيل ومن وُلِد منه؛ فإن إسكانه متضمن لإسكانهم، {بوادٍ غير ذي زرع} يعني: وادي مكة، لأنها حجرية لا تنبت، والوادي: ما بين الجبلين، وإن لم يكن فيه ماء. ولم يقل: ولا ماء، ولعله علم بوحي أنه سيكون فيه الماء، {عن بيتك المحرَّم} الذي حَرَّمه على الجبابرة من التعرض له والتهاون به، أو: لم يزل محترماً تهابُه الجبابرة، أو مُنع منه الطوفان، فلم يستأصله ويمح أثره. وهذا الدعاء وقع منه أول ما قدم، ولم يكن موجوداً، فلعله قال ذلك باعتبار ما كان، أي: عند أثر بيتك المحرم، أو باعتبار ما يؤول إليه من بنائه وعمارته واحترامه.
وقصةُ إنزاله ولده بمكة: أن هاجر كانت مملوكة لسارة، وهبها لها جبارٌ من الجبابرة؛ وذلك أن إبراهيم عليه السلام دخل مدينة، وكان فيها جبار يغصب النساء الجميلات، فأخذها، وأدخلها بيتاً، فلما دخل عليها دعت عليه، فسقط، ثم قالت: يا رب إن مات قتلوني فيه، فقام، فلما دنا منها، دعت عليه، فسقط، فقال في الثالثة: ما هذه إلا شيطانة، أخرجوها عني، وأعطوها هاجر، فعصمها الله منه، وأخدمها هاجر، ثم وهبتها لإبراهيم، فوطئها فحملت بإسماعيل، فلما ولدته غارت منها فتعب إبراهيم معها، ثم ناشدته، سارةُ أن يخرجها من عندها، فركب البراق، وخرج بها تحمل ولدها حتى أنزلها مكة، تحت دوحة، قريباً من موضع زمزم، فلما ولي تبعته، وهي تقول: لِمنْ تتركنا في هذه البلاد، وليس بها أنيس؟ ثم قالت: أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يُضيعنا.
فرجعت تأكل من مِزود، تم تركها لها، وتشرب من قربة ماء، فما فرغ الماء نشف اللبن، وجعل الولدُ يتخبط من العطش، فجعلت تطوف من الصفا، وكان جبلاً صغيراً قريباً منها، وتذهب إلى المروة، وتسعى بينهما، لعلها ترى أحداً، فلما بلغت سبعة أطواف وسمعت صوتاً في الهواء، فقالت: أغِثْ إن كان معك غياث، فتبدَّى جبريلُ بين يديها حتى وصل إلى موضع زمزم، فهمز بعقبه ففار الماء. فلما رأته دهشت، وخافت عليه يذهب؛ فجعلت تحوطه، وتقول: زم زم، فانحصر الماء. قال صلى الله عليه وسلم: «يَرْحمُ اللهُ أُمَّ إسمَاعِيل، لَوْ تَركَتْهُ، كَانَ عَيْناً مَعِيناً» فشربت، ودرَّ لبنُها.
ثم إن جرهم رأوا طيوراً تحوم، فقالوا: لا طيور إلا على الماء. فقصدوا الموضع، فوجدوها مع ابنها، وعندها عين، فقالوا لها: أتشركيننا في مائك، ونشركك في ألباننا؟ ففعلت. وفي حديث البخاري: «قالوا لها: أتحبين أن نسكن معك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء» فرحلوا إليها، وسكنوا معها، ثم زوجوا ولدها منهم. وحديث إتيان إبراهيم يتعاهد ابنه، وبنائهما الكعبة، مذكور في البخاري والسَّيَر.
ثم قال: {ربنا ليُقيموا الصلاة} أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق، إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم. وتكرير النداء وتوسيطه، للإشعار بأنها المقصود بالذات من إسكانهم ثَمَّةَ. والمقصود من الدعاء: توفيقهم لها، وقيل: اللام للأمر، وكأنه طلب منهم الإقامة، وسأل من الله أن يوفقهم لها. {فاجعل أفئدة من الناس} أي: اجعل أفئدة من بعض الناس، {تهوي إليهم} أي: تسرع إليهم شوقاً ومحبة، و {من}: للتبعيض، ولذلك قيل: لو قال: أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم، ولحجت اليهودُ والنصارى. وقيل: للبيان، أي: أفئدة ناسٍ. {وارزقهم من الثمرات} مع كونهم بوادٍ لا نبات فيه، {لعلهم يشكرون} تلك النعمة، فأجاب دعوته، فجعله حرماً آمناً تُجبى إليه ثمرات كل شيء، حتى أنه يوجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية، في يوم واحد.
{ربنا إنك تعلم ما نُخفي وما نُعلن} أي: تعلم سرنا، كما تعلم علانيتنا. والمعنى: إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وأرحم منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكننا ندعوط إظهاراً لعبوديتك، وافتقاراً إلى رحمتك، واستجلاباً لنيل ما عندك. قاله البيضاوي: أي: فيكون مناسباً لحاله في قوله:علمه بحالي يُغني عن سؤالي. وقيل: ما نُخفي من وَجْدِ الفرقة، وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليه. وتكرير النداء؛ للمبالغة في التضرع واللجوء إلى الله تعالى. {وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء}؛ لأن علمه أحاط بكل معلوم. {من}: للاستغراق.
الإشارة: ينبغي للعبد أن يكون إبراهيمياً، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة، فيقول: رب اجعل هذا القلب آمناً من الخواطر والوساوس، واجنبني وبَنِيَّ، أي: بَعِّدْنِي ومن تعلق بي، أن نعبد الأصنام، التي هي الدنانير والدراهم، وكل ما يُعشق من دون الله، {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} فتلفوا في حبها والحرص عليها، فلا فكرة لهم إلا فيهما، ولا شغل لهم إلا جمعهما، فمن تبعني في الزهد فيهما، والغنى بك عنهما، فإنه مني، ومن عصاني، واشتغل بمحبتهما وجمعهما، {فإنك غفور رحيم}.
وقوله: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع} فيه: تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين. قال الورتجبي: فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم، ونِعْم التربية ذلك فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة، الخليلية الحبيبية، الأحمدية المصطفوية صلوات الله عليهما أن العارف الصادق ينبغي له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب في حياته وبعد وفاته لتربية عياله، فإنه تعالى حسبه، وزاد في تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة إظهاراً للعبودية، وإخلاصاً في المعرفة، وطلباً للمشاهدة، ومناجاة في القربة بقوله: {ربنا ليقيموا الصلاة} إلخ.
وقال القشيري: أخبر عن صدق توكله وتفويضه، أي: أسكنت قوماً من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع، عند بيتك المحرّم. وإنما رد الرِّفق لهم في الجِوارِ فقال: {عند بيتك المحرم}، ثم قال: {ليقيموا الصلاة}. أي: أسكنتُهم لإقامة حقَّكَ، لا لِطَلَبِ حظوظهم. ويقال: اكتفى بأن يكونوا في ظلال عنايته، عن أن يكونوا في ظلال نعيمهم، ثم قال: قوله: {بوادٍ غير ذي زرع} أي: أسكنتُهم هذا الوادي، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم، فهم مطروحون ببابِكَ مُقيمون بحضرتك، جار فيهم حُكمك، إن رَاعَيتَهُم كَفَيْتَهم، وكانوا أعَزَّ خلقِ اللهِ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلَّ خَلْقِكَ. اهـ.
وقوله تعالى: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}: قال القشيري: ليشتغلوا بعبادتك، فأفُرد قوماً يقومون لهم بكفايتهم، وارزقهم من الثمرات، فإنَّ من قام بحقِّ الله قام الله بحقِّه. فاستجاب الله دعاءَه فيهم، فصارت القلوبُ من أهل كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة ذلك البيت، ومحبة أولئك المصلين من سُكانه. وقال الورتجبي: سأل أن يجعلهم مرادي جلاله وجماله، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين، بقوله: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك، والاقتداء بهم في إقامة سُنتك، وألبسهم لباس أنوارك، وألق في قلوب خلقك محبتهم بمحبتك. اهـ. ومعنى قوله: مرادي جلاله وجماله: أي: مظهراً لجلاله وجماله، يعشقهم البَرُّ والفاجر، والكامل والناقص، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال. والله تعالى أعلم.


قلت: {لسميعُ الدعاء}: من إضافة أمثلة المبالغة إلى مفعوله، أي: لسميع دعاء من دعاءه. و{من ذريتي}: عطف على مفعول {اجعل}، أي: اجعلني وبعض ذريتي مقيمين للصلاة.
يقول الحق جل جلاله: حاكياً عن خليله عليه السلام: {الحمدُ لله الذي وهبَ لي على الكِبَر} أي: مع كبر سني عن الولد، {إسماعيل وإسحاق}، رُوي أنه وُلد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة، وإسحاق لمائة وثنتي عشرة سنة، وقيل: غير ذلك. وإنما ذكر كبر سنه؛ ليكون أعظم في إظهار النعمة، وإظهاراً لما فيه من الآية، ولذلك قال: {إنَّ ربي لسميعُ الدعاء} أي: يجيب من دعاه، من قولك: سمع الملك كلامي، إذا اعتنى به. وفيه إشعارٌ بأنه تقدم بأنه تقدم منه سؤال الولد، فسمع منه، وأجابه حين وقع اليأس منه، ليكون من أجلِّ النعم وأجلاها.
ثم طلب الاستقامة له ولولده بقوله: {ربِّ اجعلني مقيم الصلاة} أي: مُتقناً لها، مواظباً عليها، {ومن ذريتي} فاجعل من يُقيمها. والتبعيض؛ لعلمه بالوحي أنَّ مِنْ ولده من لا يقيمها، أو باستقرار عادته في الأمم الماضية أن منهم من يكون كفاراً. {ربنا وتقبل دعاء} أي: استجب، أو تقبل عبادتي. {ربنا اغفر لي ولوالدي}، وكان هذا الدعاء قبل النهي، أو قبل تحقق موتهما على الكفر، أو يريد آدم وحواء. {وللمؤمنين يوم يقول الحسابُ} أي: يثبت ويتحقق وجوده، مستعار من القيام على الرِّجل، كقولهم: قامت الحرب على ساق. أو يقوم إليه أهله، فحذف المضاف، أي: يقوم أهل الحساب إليه، وأسند إليه قيامهم؛ مجازاً.
الإشارة: إتيان النسل البشري، أو الروحاني، من أجلِّ النعم وأكملها على العبد، وفي الحديث: «إذَا مَاتَ العَبْدُ انْقََطََعَ عَمَلُه إِلاَّ مَن ثَلاثٍَ، صدقةٍ جَاريةٍ، أو عَلْم بَثَه في صُدُور الرِّجالِ، أو وَلدٍ صالح يدعُو له بَعدَ مَوتهِ» والولد الروحاني أتم، لتحقق استقامته في الغالب. وطلب ذلك محمود كما فعل الخليل وزكريا، وغيرهما، وقد مدح الله مَنْ فعل ذلك بقوله: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]. وقرة عين في الذرية: أن يكونوا على الاستقامة في الدين، وسلوك منهاج الصالحين. وكل ما أتوا به من الطاعة والإحسان فللوالدين حظ ونصيب من ذلك، ولا فرق بين الولد الروحاني والبشري، وفي ذلك يقول الشاعر:
والمَرْءُ في ميزانه أَتْبَاعُهُ *** فاقْدِرْ إذنْ قَدْرَ النبيّ مُحَمَّدِ
والله تعالى أعلم.


قلت: {يوم يأتيهم}: مفعول ثانٍ لأَنذِر، ولا يصح أن يكون ظرفاً. و{نُجبْ دعوتك}؛ جواب الأمر.
يقول الحق جل جلاله: {ولا تحسبنَّ} أيها السامع، أن {اللَّهَ غافلاً عما يعملُ الظالمون}، أو أيها الرسول، بمعنى: دُمْ على ما أنت عليه من أن الله مطلع على أفعالهم، لا تخفى عليه خافية، غير غافل عنهم. وهو وعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة. وقيل: إنه تسلية للمظلوم؛ وتهديد للظالم؛ فالحق تعالى يمهل ولا يهمل. {إنما يؤخرهم}، أي: يؤخر عذابهم {ليوم تشخص فيه الأبصارُ}، أي: تحد فيه النظر، من غير أن تطرف؛ من هول ما ترى.
{مُهطعين}: مسرعين إلى الداعي؛ مذلة واستكانة، كإسراع الأسير والخائف ونحوه، أو مقبلين بأبصارهم، لا يطرفون؛ هيبة وخوفاً، {مُقنعي رؤوسهم} رافعيها إلى السماء كرفع الإبل رأسها عند رعيها أعالي الشجر. وذلك من شدة الهول، أو من أجل الغل الذي في عنقه، كقوله {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} [يس: 8]. وقال الحسن في هذه الآية: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. اهـ. {لا يرتدُّ إليهم طرفهم}، بل تقف أعينهم شاخصة لا تطرف، أو: لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم، {وأفئدتهم هواء}: خلاء، محترقة، فارغة من الفهم، لا تعي شيئاً؛ لفرط الحيرة والدهشة. ومنه يُقال للأحمق وللجبان: قلبه هواء، أي: لا رأي فيه ولا قوة. وقيل: خالية من الخير، خاوية من الحق.
{وأنذر الناس} يا محمد، أي: خوفهم هذا اليوم، وهو: {يوم يأتيهم العذابُ}، يعني يوم القيامة، أو يوم الموت؛ فإنه أول مطلع عذابهم، {فيقول الذين ظلموا} بالشرك والتكذيب: {ربنا أخِّرنا إلى أجل قريب} أي: أخِّر العذاب عنا، وردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى أجل قريب، {نُجب دعوتك} حينئذٍ {ونتبع الرسلَ} ونظيره: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10]. قال تعالى لهم: {أو لم تكونوا أقسمتم من قبلُ} أنكم باقون في الدنيا، {ما لكم من زوال} عنها بالموت ولا بغيره، ولعلهم أقسموا بطراً وغروراً. أو دل عليه حالهم؛ حيث بنوا مشيداً، وأمَّلوا بعيداً. أو أقسموا أنهم لا يُنقلون إلى دار أخرى، وأنهم إذا ماتوا لا يُزالون عن تلك الحالة، ولا ينقلون إلى دار الجزاء، كقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38].
{وسكنتمُ في مساكن الذين ظلموا أنفسَهم} بالكفر والمعاصي، من الأمم السالفة كعاد وثمود، {وقد تبيّنَ لكم كيف فعلنا بهم} بما تُشاهدون من آثارهم الدارسة، وديارهم الخربة، وما تواتر عندكم من أخبارهم، {و} قد {ضربنا لكم الأمثالَ} من أحوالهم، أي: بيَّنا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب، أو بيَّنا لكم صفات ما فعلوا، وما فُعل بهم، التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.
الإشارة: كما أمهل، سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال؛ لأن هذه الدار لا تسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان، فقد أجلَّ مقدارهم أن يجازيهم في دار لا بقاء لها، وتلك الدار باقية لا نفاذ لها، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم: {ربنا أخرنا إلى اجل قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل}، ثم بادر إلى إجابة الداعي، واتباع الرسول الهادي، في كل ما جاء به من الأوامر والنواهي، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم، كيف فعل بهم الزمان؟ وكيف غرتهم الأماني وخدعهم الشيطان، حتى أسكنهم دار الذل والهوان؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان والشكر لله على الهداية لنعمة الإسلام، والإيمان، وعلق قلبك بمقام الإحسان؛ فإن الله يرزق العبد على قدر نيته، وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7